لم يكن أحد يتوقع أن يتحول ملف داخلي يخص مداولات لجنة تابعة لقطاع الصحافة إلى حدث وطني يُشعل مواقع التواصل الاجتماعي ويعيد الإشكالات البنيوية للمشهد الإعلامي إلى السطح بهذا الزخم.
لكن الصحافي حميد المهداوي ، بعد نشره تسجيلاً مسرّباً من داخل اللجنة، فجر عاصفة سياسية وقانونية ومهنية لم تهدأ بعد، وأصبحت الحدث الأكثر بحثا في محركات البحث ومواقع التواصل.
بدأت القصة حين كشف المهداوي عن فيديو قال إنه وصله من "مصدر لن يكشف عنه مهما كانت الضغوط"، يوثق جانباً من مداولات لجنة التأديب التابعة للمجلس الوطني للصحافة.
تضمن التسجيل مقاطع اعتبرها المهداوي "دليلاً على تدخل في قضايا رائجة أمام القضاء"، مع الإشارة إلى مسؤولين قضائيين بارزين.
انتشرت المقاطع بسرعة خاطفة على منصات التواصل، ليجد المغاربة أنفسهم أمام مادة مشتعلة أثارت أسئلة كبيرة، وفضول أكبر من أجل الاطلاع على ما سيؤول إليه الأمر.
الصحافيون والحقوقيون ملأوا منصات التواصل بتدوينات تضامن واضحة مع المهداوي، داعين إلى إنصافه، وإعادة النظر في قرار سحب بطاقته المهنية، وفتح تحقيق يكشف حقيقة التسريب ومن يقف وراء ما اعتبروه "تشويهاً للصحافة وضرباً لأخلاقيات المهنة".
من جهتها، سارعت اللجنة الوطنية المؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر إلى إصدار بلاغ أعلنت فيه لجوءها للقضاء ضد المهداوي.
البلاغ اتهمه ب"تركيب منتقى لمقاطع” هدفه الإيقاع بالجمهور في الخطأ والإساءة للجنة، مؤكداً أن نشر مداولات داخلية يعد “جريمة يعاقب عليها القانون".
القضية لم تعد مهنية فقط، بل تحولت إلى موضوع سياسي، فحزب العدالة والتنمية عبّر عن "أسفه الشديد" لمحتوى التسجيلات، واعتبر أن اللجنة المؤقتة فقدت مشروعيتها، مطالباً بتحقيق قضائي مستعجل في ما وصفه بـ“المعطيات الخطيرة” التي تمس استقلالية القضاء وسمعة الصحافة.
حزب التقدم والاشتراكية بدوره وجّه سؤالاً كتابياً لوزير الشباب والثقافة والتواصل، مستفسراً عن موقف الحكومة من التسجيلات، ومحذراً من آثارها على ثقة المهنيين والرأي العام في مؤسسات التنظيم الذاتي.
أما النقابة الوطنية للصحافة المغربية فاعتبرت أن ما ورد في التسجيلات “يمس روح التنظيم الذاتي ونزاهة القطاع”، مطالبة بتحقيق عاجل وترتيب العقوبات ضد كل من يثبت تورطه.
ولم يتوقف الأمر عند الأحزاب والنقابات. فقد وجه محام رسالة مفتوحة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، طالب فيها بفتح تحقيق حول تصريحات منسوبة لرئيس اللجنة المؤقتة، تتحدث عن إمكانية “التدخل” لدى جهات قضائية في ملف المهداوي.
هذه الرسائل زادت من حجم ملف القضية ورفعتها من مجرد خلاف مهني إلى شبه قضية رأي عام تمس صورة القضاء واستقلالية مؤسسات تنظيم الصحافة.
والآن، يحق للبعض أن يتساءل: كيف تحول اسم حميد المهداوي إلى "ترند" وطني خلال ساعات؟ الجواب بسيط: لأن القضية جمعت بين ثلاثة عناصر شديدة الحساسية في المغرب: القضاء، حرية الصحافة، واسم المهداوي نفسه.
وبغض النظر عن تفاصيل المحتوى، فقد كشف هذا الحدث عمق أزمة الثقة بين الصحافيين والهيئات، وطرح أسئلة حول استقلالية المجلس الوطني للصحافة، الذي ما يزال يعيش حالة “انتداب مؤقت” منذ سنوات.
لقد تحوّل اسم المهداوي إلى "ترند" ليس لأن شخصه محط الإجماع، بل لأن التسجيلات، بصرف النظر عن مدى قانونية نشرها، لامست أعصاباً مكشوفة في المشهد الصحافي والقضائي والسياسي بالمغرب.
والآن، الجميع ينتظر: هل يُفتح التحقيق فعلاً؟ هل تتغير طريقة تدبير قطاع الصحافة؟ وهل تكون هذه القضية بداية إصلاح أم بداية أزمة أكبر؟
الأيام المقبلة وحدها تحمل الجواب.
